دعوة للمنهجية والإنصاف
إذا أراد أن يعالج الطبيب لا بد أن يكون مختصاً بالطب،وإذا أراد إنسان أن يبنى عمارة عهد بها إلى مهندس متخصص، وعندما يحتاج تاجر إلى دراسة جدوى أحد المشاريع أسند المهمة إلى خبير اقتصادي ،وإذا تساءل الناس عن مجريات الأحداث استمعوا إلى محلل سياسي ...
وهذا كله تصرف منهجي، وأمر بدهي ،بل تبلور الأمر حتى غدا عرفاً اجتماعياً ، وقانوناً جماعياً ،والناس لا يقبلون تجاهل وتجاوز هذه المسلمات بل يعارضون من يفعل ذلك ويطالبون بمعاقبة كل من يمارس مثل هذه المهام دون دراية على اعتبار أنه ارتكب جناية ،ولا اعتراض على شئ مما ذكر لكن الاعتراض على نقص هذه المنهجية في أمر من أكثر الأمور أهمية وأشدها خطورة، مع عدم وجود ما يبرر هذا النقض ،إنني أعني ظاهرة خطيرة هي ظاهرة الجرأة على الإسلام من خلال الفتوى بغير علم ،ومن خلال التعرض للموضوعات والتشريعات والخصائص الإسلامية دون تخصص ودراية، فأنت ترى الصحفي والفنان والسياسي وغيرهم يدلون بدلوهم ويشاركون بآرائهم بل ويحكمون باجتهاداتهم في أدق الأمور الإسلامية وأكثرها عمقاً ،وهم يمارسون ذلك بكل بساطة وسهولة، ودون أدنى حرج أو تهيب، ودون شعور بافتقارهم للعلم بهذه الموضوعات فضلاً هن التخصص فيها، وإليك- أخي القارئ- أمثله يسيرة لذلك :
1- إحدى الفنانات الشهيرات تصرح قائلة: " ولكن أن يتم ذلك –أي حجاب الفنانات- بكلمة التوبة فهذا ما هزني فعلاً واستفزني لأعلن أن الفن ليس من الموبقات والمعاصي التي يجب التوبة عنها" وفي مقدمة حديثها الصحفي تقول المجلة:"يجب علينا أن نصدق (فلانة) عندما تقول : الفن ليس عاراً ولا وباءً ولا معصية لا تمحوها إلا التوبة " وهذا يعني الإفتاء بجواز التبرج والتفسيخ والرقص والغناء، والقبلة والمعانقة " غير ذلك مما هو أفحش وأقذر، وقد ذكرت الفنانة المجتهدة أن جيل الفنانات الجديد شديد التدين واستشهدت بأن إحداهن كانت تصوم أثناء تصوير الأفلام في رمضان رغم التعب والإرهاق أنها قالت لها:"إنه يمكنها الإفطار إذا كانت لا تتحمل مشقة الصوم " .
3- إحدى المفكرات تقول :" ليس هناك من إجماع في المدارس الإسلامية على أمر أكثر من هذا الأمر وهو مسئولية الإنسان عن فهمه للقرآن والأحاديث، وعدم مسئولية رجال الدين، وعدم وجود وظيفة أصلاً لرجال الدين ،ولهذا فإن واجب هؤلاء المفكرات الإسلاميات أن يفسرن القرآن والأحاديث النبوية بعقولهن وليس بقول الرجال الدين أو علماء التفسير" ثم تمضي لتشرح لنا أن الحجاب والختان هي عادات بشرية كانت نتيجة لظروف بيئية ثم أضيفي عليها الطابع الديني، ولا حاجة إلى التعلق على هذا الهراء !
3- إحدى المجلات اليسارية خرجت علينا بنص وصية زعمت أنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها مكتوبة بخط علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ووقعها (22) صحابياً، ومن المضحك المبكي أن الوثيقة المزعومة كتبت في اليوم الثالث من شهر محرم في السنة الثانية للهجرة ،بينما وقع عليها أبو هريرة الذي أسلم في العام السابع للهجرة ،والعباس بن عبد المطلب الذي أسلم قبيل الفتح، ولاتعليق أيضاً !
4- إحدى المجلات خرجت علينا بتحقيق صحفي عن علاقة الزمالة والصداقة بين الطلبة والطالبات وما بينهم من العلاقات والزيارات وفي آخر التحقيق قالت:هذه آراء الشباب والشابات والآباء والأمهات فهل هناك ما يحتاج إلى مزيد من التوضيح، وكأن مسألة الاختلاط والعلاقات ليس فيها أحاديث ولا آيات، ولا أحكام أو آداب ، ولا شرع ولا دين !
5- فكر مستنير يقول:"إن الجماعات المتطرفة تقتل وتحرق بفتوى ابن تيمية" ثم يقول إنه أرسل لبعض العلماء وقال لهم:" لماذا لا نعيد محاكمة ابن تيمية ؟ لماذا نعيد اكتشافه من خلال البحوث والمحاضرات ولكن لم يلتفت لذلك" والحمد لله على ذلك .
6- أخيراً تصريح صحفي لمسئول رسمي يقول:"حين نتحدث عن النقاب يجب أن نعلم أن قضية الملابس من القضايا التي تتعلق بالعادات وليس بالعقائد والعبادات " ! هكذا بإطلاق ، ثم يضيف إطلاقاً آخر أخطر فيقول: "وشئ واحد لا خلاف فيه وهو أن تظهر وجهها وكفها ".
هذا غيض من فيض لمقولات فيها خلط كبير وأخطاء فاحشة، والغريب أننا لا نجد الاعتراض المناسب على هذا التجاوز بل إن البعض يرفضون الاعتراض بحجة أن الإسلام دين الجميع ،ولا يوجد فيه رجال دين أو طبقة كهنوت وهذه مقالة حق أريد بها –عمداً أو جهلاً- باطل ،ونحن نقر ذلك ولكننا لا نقبل بإلغاء شرط العلم وإغفال جانب التخصص لمن يفتي ويعلم، أو يدعو وينظر، وذلك مقتضى قول الحق جل وعلا :{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وهناك مزية ذكرها المصطفى - صلى الله عليه وسلم- للعلماء عندما قال: (العلماء ورثة الأنبياء) .
وإشاعة هذه الفوضى ،وإطلاق تلك المقالة يتعارض مع النصوص الكثيرة في فضل العلم وأهمية دور العلماء ، فهل الطب والهندسة أكثر أهمية من الدين ؟ حتى نحميهما من غير المتخصصين .
إنها دعوة للمنهجية في مراعاة الأهلية والتخصص ،ودعوة للإنصاف والحماية للدين من الجاهلية والمتعالمين .د. علي بن عمر بادحدح